الاثنين، 26 ديسمبر 2011

مكتبة بيت الحكمة العامة ببغداد وأثرها على الحضارة الإنسانية

مؤسسات عديدة تلك التي كان لها تأثير بالغ في نمو الحضارة الإنسانية وتطورها حتى ظهرت بصورتها الحديثة , ولكن أشهر تلك المؤسسات مكتبة بيت الحكمة ببغداد , أحد الكنوز العلمية التي أنتجها الفكر الإسلامي قديما ، كما أنتج غيرها من المكتبات العلمية في سائر الأقطار الإسلامية , والتي تناسى الناس دورها رغم أنها كانت بمثابة جامعة علمية عالمية, يقصدها الطلاب على اختلاف أجناسهم وأديانهم من الشرق والغرب لدراسة فنون العلم المختلفة ، وبلغات متعددة , وظل نورها يضيء للبشرية طريقها قرابة خمسة قرون حتى دمرت على أيدي التتار .


وقد أنشئت هذه المكتبة في القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي ) حيث أسسها الخليفة العباسي هارون الرشيد ـ رحمه الله ـ وذلك بعد أن ضاقت مكتبة قصره بما فيها من كتب , وعجزت عن احتواء القراء المترددين عليها , مما جعله يفكر في إخراجها من القصر , وإفرادها بمبنى خاص بها , يصلح لاستيعاب أكبر عدد من الكتب , ويكون مفتوحا أمام كل الدارسين وطلاب العلم.

فاختار لها مكانا مناسبا , وأقام عليه مبنى مكونا من عدة قاعات , قاعة للاطلاع , وقاعة للمدارسة , وقاعة لنسخ الكتب الجديدة وتجليدها , وقاعة للترويح عن النفس وللاستراحة , ومسجدا للصلاة , ومكانا يبيت فيه الغرباء , تتوفر فيه مقومات الحياة من طعام وشراب وغيره , ومخزنا للكتب , نظمت فيه بحيث صار لكل فن من الفنون العلمية مكان خاص به , وتوضع فيه مرتبة في دواليب , يحمل كل دولاب عنوانا لما فيه من كتب , وأرقامها , ثم جعل لكل فن فهرست خاص به , يشمل عناوين وأرقام الكتب , وتعريف بكل كتاب ومؤلفه , وعدد أجزائه وصفحاته , واللغة التي كتب بها , وإشارة إلى أجزائه المفقودة إن كان فقد منه شيء .

ثم زودها بما تحتاج إليه من أثاث ومرافق, وأحبار وأوراق للدارسين, وعين لها المشرفين على إدارتها, والعمال القائمين على خدمة ورعاية زائريها.

وأحضر لها كبار العلماء في فنون العلم المختلفة , مسلمين وغير مسلمين عربا وعجما , وأجزل لهم العطاء , وفتح لهم باب المناقشات الحرة فيها , وإقامة المناظرات العلمية , وتصنيف الكتب, وشجع الطلاب على التردد عليها من شتى الأرجاء ، ورصد لهم المكافآت , وأجرى عليهم الأرزاق والعطايا .

وصار يجلب إليها كل كتاب يسمع عنه , بل وشجع التجار الذين كانوا يرحلون إلى بلاد فارس والروم والهند بشراء ما يقع تحت أيديهم من كتب أيا كان نوعها, وحض باقي الناس على المساهمة في ذلك حتى قيل : إنه كان في بعض الأوقات يقبل الجزية ممن تجب عليهم كتبا ، كما أحضر لها مئات النساخ والشراح والمترجمين من شتى اللغات ؛ لتعريب ونقل الكتب من لغتها الأصلية .

وواصل ابنه المأمون بعده الاهتمام بتلك المكتبة , حتى غدت من أعظم المكتبات في العالم , ووضع بها مرصدا ؛ ليكون تعليم الفلك فيها تعليما عمليا ، يجرب فيها الطلاب ما يدرسونه من نظريات علمية , وبنى بها مستشفى لعلاج المرضى وتعليم الطب , إذ كان يؤمن بأن العلم النظري وحده لا جدوى منه .

وكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما عنده من العلوم القديمة المخزونة المورثة عن اليونان , وكانت تقاليد الروم وقتها تمنع من مطالعتها , ثم أجابه إلى ذلك بعد امتناع , فجهز المأمون بعثة علمية , وزودها بنفر من المترجين , وجعل على رأسها المشرف على مكتبة" بيت الحكمة " , وتجولت تلك البعثة في كثير من الأماكن المختلفة التي يظن أن فيها مخازن للكتب اليونانية القديمة , وعادت إليه بطرائف الكتب , وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب والفلك ، وغير ذلك من العلوم .

كما راسل المأمون باقي الملوك في عصره يسألهم أن يسمحوا لبعثاته بالبحث والتنقيب عن الكتب في المخازن القديمة , ومن أطرف ما حكي في ذلك أن إحدى هذه البعثات العلمية وجدت تحت حصن قديم ببلاد فارس صناديق , بها كتب كثيرة قد تعفنت حتى فاحت منها رائحة نتنة , فأخذتها رجال البعثة, وحملوها إلى بغداد وبقيت حولا كاملا حتى جفت وتغيرت ، وزالت الرائحة عنها , ثم أقبلوا بعد ذلك على دراسة ما فيها ـ وللقارئ أن يتخيل إلى أي مدى وصل هؤلاء من الحرص على العلم , والفرق بينهم وبين أجيال المسلمين المعاصرة ، وما هم عليه من زهد في القراءة وإعراض عنها.

واجتمع لدى المأمون بذلك ثروة هائلة من الكتب القديمة , فشكل لها هيئة من المترجمين المهرة والشراح والوراقين, للإشراف على ترميمها ونقلها إلى العربية, وعين مسئولا لكل لغة يشرف على من يترجمون تراثها , وأجرى عليهم الرواتب العظيمة , حيث جعل لبعضهم خمسمائة دينار في الشهر, أي ما يساوي 2كيلو جرام ذهبا تقريبا , بالإضافة إلى الأعطيات الأخرى , إذ أعطى على بعض الكتب المترجمة وزنها ذهبا.

وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست أسماء لعشرات ممن كانوا يقومون بالترجمة من اللغات الهندية واليونانية والفارسية والسريانية والنبطية, وهؤلاء لم يقوموا بترجمة الكتب إلى العربية فقط , وإنما إلى سائر اللغات الحية المنتشرة داخل المجتمع الإسلامي ؛ كي ينتفع بها جميع من يعيش داخل البلاد الإسلامية على اختلاف جنسياتهم , وبعضهم كان يقوم بترجمة الأصل إلى لغته هو , ثم يقوم مترجم آخر بنقله إلى العربية وغيرها , كما كان يفعل يوحنا بن ماسويه الذي كان ينقل الكتاب إلى السريانية , ثم يكلف غيره بنقله إلى العربية ، مع الاحتفاظ بالأصل بعد صيانته وتجليده .

ومن يراجع كتب الفهارس التي نقلت عن هذه المكتبة يجد إشارات كثيرة تدل على أن الكثير من الكتب كان يوجد منها نسخ نبطية وقبطية وسريانية وفارسية وهندية ويونانية , وقدم علماء المسلمين بذلك خدمة جليلة للبشرية جمعاء , بنقلهم لهذا التراث الذي كان مهددا بالزوال , ولولاهم ما عرف الناس في العصر الحديث شيئا عن المصنفات اليونانية والهندية الثمينة القديمة, حيث كان يحرم الاطلاع عليها في كثير من البلدان التي جلب منها , وكان يحرق منها ما يعثر عليه, كما فعل بكتب أرشميدس العالم الشهير, إذ أحرق الروم منها خمسة عشر حملا.

وبالطبع لم يقتصر دور هؤلاء العلماء على الترجمة , وإنما قاموا بالتعليق على هذه الكتب ، وتفسير ما فيها من نظريات , ونقلها إلى حيز التطبيق , وإكمال ما فيها من نقص , وتصويب ما فيها من خطأ , حيث كان عملهم يشبه ما يسمى بالتحقيق الآن , كما يفهم من تعليقات ابن النديم على بعض تلك الكتب.




وما إن انتهى عصر المأمون حتى كانت معظم الكتب اليونانية والهندية والفارسية وغيرها من الكتب القديمة في علوم الرياضة والفلك والطب والكيمياء والهندسة موجودة بصورتها العربية الجديدة بمكتبة " بيت الحكمة " وفي ذلك يقول ول ديورانت صاحب كتاب " قصة الحضارة " : لقد ورث المسلمون عن اليونان معظم ما ورثوه من علوم الأقدمين , وتأتي الهند في المرتبة الثانية بعد بلاد اليونان .

ورغم أن هذه المكتبة قد جمع فيها كما قال القلقشندي من الكتب ما لا يحصى كثرة , ولا يقوم عليه نفاسة إلا أنها لم تكن الوحيدة في العالم الإسلامي , وإنما كان ثمة الكثير من المكتبات التي لم تقل شأنا عن عنها ؛ لأن الأمراء المسلمين كانوا يتنافسون في جمع الكتاب , حتى إن أمير الأندلس كان يبعث رجالا إلى جميع بلاد المشرق ليشتروا له الكتب عند أول ظهورها, وكان الخليفة الفاطمي ( العزيز ) بمصر لا يسمع عن كتاب إلا جلبه إلى مكتبته بالقاهرة .

وقد لعبت هذه المكتبة مع كثير من المكتبات الإسلامية الأخرى دورا كبيرا في حدوث نهضة علمية في سائر المجالات عند المسلمين الأوائل, ومن تتلمذ على أيديهم من أبناء الأمم الأخرى , نهضة لم بشهد لها التاريخ مثيلا قبل العصر الحديث , هذا في الوقت الذي كانت أوربا (كما يقول سارتون أحد علمائها ) في حال مزرية من البداوة والتخلف .

ويسرت السبل لنبوغ كثير من العلماء الذين صاروا أصحاب الريادة في علوم شتى ارتبط اسمهم بها إلى الآن مثل :

الخوارزمي ( محمد بن موسى ( الذي يعد المبتكر الحقيقي لعلم الجبر بصورته الحديثة , وهو الذي وضح كيف تحل المعادلة من الدرجة الأولى والثانية , وسائر المعادلات الأخرى المرتبطة بالمشكلات الأخرى , واستطاع أن يعالج خمس فئات من الدرجة الثانية وصار المعلم الأول له , وهو أول من أطلق على الكمية المجهولة اسم " الجذر " إشارة إلى جذر النبات الذي عادة ما يكون مختفيا تحت الأرض , واستخدم مصطلح القوة  الأوس  ليصف به مربع الجذر .

وإلى هذا الرجل وغيره من علماء المسلمين يرجع الفضل في استخدم نظام الصفر الذي أحدث تطورا في العمليات الرياضية , كما يذكر "ول ديورانت " حيث قال : كانوا يضعون دائرة صغيرة مكان الرقم غير الموضوع مكان العشرات , وسميت هذه الدائرة " صفرا " أي خالية , ومنها اشتقت الكلمة الإنجليزية cipher وحور اللاتين لفظ صفر Sifr إلى zephyrum ثم اختصره الطليان إلى. zero

كما كان للخوارزمي هذا معرفة واسعة بعلم الفلك , وقال عنه ابن النديم :" كان منقطعا إلى خزانة الحكمة للمأمون, وهو من أصحاب علوم الهيئة , وكان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجيه الأول والثاني , ويعرفان بالسند هند .

والرازي ( أبو بكر محمد بن زكريا ) الطبيب الشهير الذي برع في كثير من العلوم , وصنف قرابة131كتابا نصفها في الطب , ويشتهر من تلك الكتب كتاب " الحاوي " ويقع في عشرين مجلدا , يبحث في فروع الطب كلها , وقد ترجم إلى اللغة اللاتينية وسمي liber cntinens وظل عدة قرون أعظم الكتب الطبية مكانة , وأهم مرجع لعلم الطب في أوربا , وكان من الكتب التسعة التي تتألف منها مكتبة الكلية الطبية في جامعة باريس خلال القرن الرابع عشر الميلادي .

كما طبعت رسالته في الجدري والحصبة باللغة الإنجليزية أربعين مرة ما بين عامي 1498و1866م , وظل كتابه المسمى المنصوري ( أهداه إلى رجل يسمى منصور بن إسماعيل )متداولا في أوربا خلا القرن السادس عشر الميلادي .

ونال هذا الرجل منزلة عالية في العلم مع ما اتصف به من تواضع وحب للفقراء , حتى وصفه ابن النديم بقوله " أوحد دهره وفريد عصره , قد جمع المعرفة بعلوم القدماء وسيما الطب , وكان ينتقل في البلدان ... وكان يجلس في مجلسه ودونه تلاميذه, ودونهم تلاميذهم , ودونهم تلاميذ أخر , وكان يجيء الرجل المريض فيصف ما يجد لأول من تلقاه , فان كان عندهم علم وإلا تعداهم إلى غيرهم , فان أصابوا وإلا تكلم الرازي في ذلك , وكان كريما متفضلا بارا بالناس, وحسن الرأفة بالفقراء والأعلاء ( المرضى) حتى كان يجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم .

ومن العجب أن الرازي هذا وغيره من أطباء المسلمين قد نالوا من الغربيين من التقدير ما لم ينالوه في بلادنا العربية , حتى إن جامعة برستون الأمريكية كانت تخصص جناحا بمبانيها لعرض مآثر هذا الرجل , كما ذكر ول ديورانت أن مدرسة الطب بجامعة باريس كانت تعلق له وابن سينا صورتين ملونتين ؛ لما لهما من فضل على مهنة الطب , وذكر أيضا أن مدير جامعة برلين ورئيس فرع الطب بها , قال : في حفل أقيم بها " أيها الطلاب العرب ! والآن اسمحوا بأن نعيد على أسماعكم ما أخذناه من أسلافكم , وتعلمناه عن آبائكم " ,واعترفت د/ شواهرت ( وزير صحة ألمانيا الاتحادية) في افتتاح إحدى المؤتمرات الدولية بالقاهرة بمثل ذلك الفضل فقالت : " إن الغرب لن ينسى أبدا أنه مدين للعرب بدراسة الطب , وأن مؤلفات ابن سينا والرازي كانت هي الكتب الوحيدة التي درس في جامعة بالرمو التي تضم أشهر مدرسة للطب في العلم الغربي .

وابن سينا ( أبو علي بن الحسين )الطبيب الشهير أيضا الذي صنف ما يزيد عن مائة كتاب في فنون العلم المختلفة بالعربية والفارسية , أشهرها كتاب " القانون" في الطب الذي غطت شهرته على مؤلفات الرازي نفسه , بعد ترجته إلى اللغة اللاتينية , وأصبح المعتمد عليه في دراسة الطب في المدارس الأوربية .

ومن بين مصنفاته أيضا دراسات مبتكرة في الحركة والطاقة والفراغ والضوء والحرارة والكثافة النوعية , وله رسالة في المعادن بقيت حتى القرن الثالث عشر الميلادي أهم مصادر علم طبقات الأرض عند الأوربيين .

والبيروني ( أبو الريحان أحمد بن محمد) الذي اشتهر بمعرفته الواسعة في علم الهيئة والنجوم وكان له نظر جيد في صناعة الطب كما يقول صاحب كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون " وكان فيلسوفا ومؤرخا ورحالة وجغرافيا ولغويا ورياضيا وفلكيا وعالما في الطبيعيات , له مصنفات علمية في كل تلك المجالات , وقد أشار في كتابه " القانون المسعودي إلى كروية الأرض , وأثبت أن الأشياء تنجذب نحو مركزها, وقال : إن الحقائق الفلكية يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض تدور حول محورها مرة في كل يوم , وحول الشمس مرة كل عام , وله مصنفات في الرياضيات ، توصل فيها إلى طريقة لحساب تكرار تضعيف دون الالتجاء إلى عمليات الضرب والجمع الطويلة الشاقة . ووضع في الهندسة حلولا لنظريات سميت فيما بعد باسمه .

وجابر بن حيان الذي يعد إمام علم الكيمياء , حتى إن القدماء كانوا يخصونها به قديما , فيسمونها علم جابر , بل من العلماء المحدثين أيضا من شهد له بتلك الإمامة , ومن هؤلاء الفيلسوف الإنجليزي  باكون  الذي قال : إن جابر بن حيان الكوفي يعد معلم العالم في الكيمياء .

وقد عدد له صاحب كتاب " كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون سبعين رسالة في هذا المجال , وقد ساهمت جهوده مع غيره ممن اشتغلوا بالكيمياء ، والبحث فيها من علماء المسلمين الآخرين في ازدهار هذا العلم , حيث أدخلوا في دراسته كما يقول ول ديورانت : الملاحظة الدقيقة , والتجارب العلمية, والعناية برصد نتائجها ، واخترعوا الأنبيق وسموه بهذا الاسم , وحللوا عددا لا يحصى من المواد تحليلا كيميائيا , ووضعوا مؤلفات في الحجارة ، وميزوا بين القلويات والأحماض , وفحصوا عن المواد التي تميل إليها , ودرسوا مئات من العقاقير الطبية , وركبوا المئات منها .

وقد اشتهر جابر عند الأوربيين فيما بعد باسم جيبر وترجمت معظم الكتب المنسوبة إليه إلى اللغة اللاتينية , وكان لها الفضل في تقدم علم الكيمياء في أوربا.

والبتاني (أبو عبدالله محمد بن جابر بن سنان الحراني ) الذي قال عنه الذهبي: له أعمال وأرصاد وبراعة في فنه , وله تصانيف في علم الهيئة, وكان أوحد عصره في فنه ، وأعماله تدل على غزارة فضله ، وسعة علمه ، حتى إنه أقام لنفسه مرصادا خاصا به ، باشر عليه أعماله , واستطاع به أن يحسب طول السنة الشمسية , وذكر أنه يقدر ب 365يوما وخمس ساعات و48دقيقة و24ثانية , وهذا حساب لا يختلف كثيرا عما ذكره العلماء حديثا , وتنبأ بكسوف الشمس وخسوف القمر بدرجة من الدقة المتناهية .

وابن النفيس( علاء الدين على ابن أبي الحرم القرشي (والذي قال عنه صاحب كتاب شذرات الذهب انتهيت إليه معرفة الطب في عصره , وكان يتمتع بذكاء مفرط وذهن خارق , وله كثير من المؤلفات في الفقه والأصول والحديث والعربية والمنطق ووصفه الذهبي بقوله : صاحب التصانيف الفائقة في الطب الموجز وغيره,ألف في الطب كتاب "الشامل" وهو كتاب عظيم تدل فهرسته على أنه يتكون من ثلاثمائة مجلد , وكانت تصانيفه يمليها من حفظه , ولا يحتاج إلى مراجعة ؛ لتبحره في العلم , كما وصفه السبكي في كتابه " طبقات الشافعية" بقوله" لم يكن على وجه الأرض مثله في الطب, ولا جاء بعد ابن سينا مثله , وكان في العلاج أعظم من ابن سينا .

والإدريسي الجغرافي الشهير الذي زود المعرفة الإنسانية بحقائق جغرافية لا تختلف كثيرا عما هو متعارف عليه الآن , من ذلك قوله : وأهل النظر في علم الهيئة يرون أن الأرض مدورة كتدوير الكرة , والماء لاصق بها , وراكد عليها ركودا طبيعيا لا يفارقها , والأرض والماء مستقران في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة ... والأرض مستقرة في جوف الفلك, وذلك لشدة سرعة حركة الفلك, وجميع المخلوقات على ظهرها, والنسيم الهواء جاذب لما في أبدانهم من الخفة, والأرض جاذبة لما في أبدانهم.

وقال :إن الثقل بمنزلة حجر المغناطيس الذي يجذب الحديد إليه , والأرض مقسومة بقسمين بينهما خط الاستواء , وهو من المشرق إلى المغرب , وهذا هو طول الأرض , وهو أكبر خط في الكرة , كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك , واستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاث مائة وستون درجة , والدرجة خمسة وعشرون فرسخا , والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع , والذراع أربعة وعشرون إصبعا , والإصبع ست حبات شعير مصفوفة ، ملصقة بطون بعضها لظهور بعض, فتكون بهذه النسبة إحاطة الأرض مائة ألف ذراع , واثنين وثلاثين ألف ذراع, وتكون من الفراسخ أحد عشر ألف فرسخ ... وبين خط الاستواء وكل واحد من القطبين تسعون درجة , واستدارتها عرضا مثل ذلك , إلا أن العمارة في الأرض بعد خط الاستواء أربع وستون درجة , والباقي من الأرض خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد والجمود , والخلق بجملته على الربع الشمالي من الأرض , وأيضا فإن الربع الجنوبي وهو الذي فوق خط الاستواء غير مسكون ولا معمور لشدة الحر به دائما على سمته, فجفت مياهه وعدم حيوانه ونباته لعدم الرطوبة ... والأرض في ذاتها مستديرة لكنها غير صادقة الاستدارة فمنها منخفض ومرتفع والماء يجري فيها من أرفعها إلى أخفضها, والبحر المحيط يحيط بنصف الأرض إحاطة متصلة , دائرتها كالمنطقة لا يظهر منها إلا نصفها.

وقد سجل ذلك في مقدمة كتابه " نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " الذي ألفه بعد أن طاف المعمورة ، ورأى ما فيها بعينه .

هذه نماذج فقط لمئات ممن أنتجهم الفكر الإسلامي , الذي أرست قواعده مكتبة بغداد وغيرها من المكتبات الإسلامية , ولكن للأسف هذا المعلم الحضاري ، وتلكم المنارة أبيدت تحت وقع هجمات التتار الذين علتهم الهمجية , ولم يكنوا يقدرون العلم في شيء , إذ أحرقوا فور دخولها كتب العلم التي كان بها من سائر العلوم والفنون , وأفنى الناس أموالهم وأعمارهم طوال خمسة قرون في جمعها , وصنعوا ببعضها جسرا على النهر يعبرون عليه, وأعدموا آلاف الطلاب الذين أقبلوا من سائر العالم للدراسة بها ,كما قتلوا آلاف العلماء الذين كانوا ينشرون العلم في ربوعها , وفقدت البشرية جمعاء وليست بغداد فقط كنزا من أعظم الكنوز , وكانت الخسارة على العالم أجمع عظيمة بحيث لا يعلمها إلا الله .

ومن العجب أن القليل من المؤلفات العلمية التي نجت من الدمار على أيدي هؤلاء الغزاة وغيرهم كانت من أهم أسباب النهضة العلمية الحديثة في أوربا , وقد شهد بذلك كثير من العلماء المنصفين في الغرب , ومن هؤلاء غوستاف لبون الذي قال : كلما تعمق المرء في دراسة المدنية الإسلامية تجلت له أمور جديدة , واتسعت أمامه الآفاق , وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا بواسطة علماء المسلمين ... ولقد عاشت جامعات الغرب خمسمائة سنة تنقل عن العرب وتتعلم منهم .

ومن هؤلاء أيضا سيدو الذي قال : إن علماء المسلمين هم في الواقع أساتذة أوربا في جميع فروع المعرفة , ورينان الفرنسي الذي قال : إن العلوم والحضارة مدينة بازدهارها وانتشارها للمسلمين وحدهم طوال ستة قرون " , وبريفولت الذي قال : إن العلم هو أجل خدمة أسدتها الحضارة العربية إلى العلم الحديث , فالإغريق قد نظموا وعمموا ووضعوا النظريات , ولكن روح البحث .. وطرائق العلم الدقيقة والملاحظة الدائبة المتطاولة كانت غريبة عن المزاج الإغريقي , وإنما كان العرب هم أصحاب الفضل في تعريف أوربا بهذا كله ... إن العلم الأوربي مدين بوجوده للعرب , وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العلم الأوربي, ويقول رينان الفيلسوف الفرنسي : إن العلوم والحضارة مدينة بازدهارها وانتشارها للمسلمين وحدهم طوال ستة قرون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق